إمام العباقرة ، وعبقري الأئمة ، له في العلم سبب ، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب.
سألت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسألت أدوية بقدرها . ذاكرته أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين .
الشافعي أخذ من الأثر روحه ، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيتة ومن الشعر حلاوته ، ومن المجد ذروته .
قعّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد ، فخَرَت به قريش ، وتبجحت به العراق ، وخرجت إليه مصر ، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره ، ورد على المريسي فأطفأ ناره ، وجاور أحمد فشكر جواره .
الشافعي لدنيا العلوم شمس ، ولأبدان الأخبار عافية ،ولليل المدلهم قمر، في الشرع شعرُه ، في الحق بذلُه ، للآخرة طلبُه ، لله سعيه ، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد .
الألفاظ سكر ، والقصد نضيد ، حفر لحدًا للملاحدة ، وعزل في زنزانة الإحباط المبتدعة ، ورد الأباطيل في جوه أهل التعطيل ، إن سألنا عن أهل الكلام فالجريد والنعال . وأهل السنة : رواد الجنة . والفلاسفة : أهل سفه . ومالك : نجم الممالك . وأحمد بن حنبل : زرع سنبل.
أتاه المال ففر منه إلى العلم ، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة تعلم الفراسة في اليمن ، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألحم الدجاجلة ، وصال بالأصول على أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم.
درس الطب فمرض جسمه ، و داوى الناس فزاد غُنمه .
المروءة عنده ولولا الشعر بالعلماء يزرى ، التواضع : أحب الصالحين ولست منهم .
ميزة الشافعي : التفرد ، ومنقبته التجرد ، تفرد في الفهم ، فعصر من زهر الذهن رحيقاً ، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً .
فاح طيب ذكره في الأنوف ، فيا فرحة من شم ، وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهاب ثاقب أُحرقت به شياطين الإنس ولهم عذاب واصب
يا ابن إدريس أيا الشهم الأجلّ أنت سيف الحق في العلياء سُلّ .
مسكين من جادل الشافعي وناظره ، مسكين من عارضه وكابره ، مسكين من عرفه وما ذاكره .
درس محمد بن إدريس علوم محمد صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء ولا تطفئه الريح ولا يلفه الظلام ، ولا ينسيه الدهر ، الرسوخ في يسر ، العمق في سهولة ، الأصالة في إشراق ، البراعة في نصوع .
أهل فارس يعرفونه ، وأهل الصين يذكرونه ، وأهل الأندلس يمدحونه ، وأهل الباطل يبغضونه .
إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب ، إن تكلم أسكت الخطباء ، وإن أنشد صمت الأدباء والبلغاء ، أحب الملة فأمهرها روحه ، وعشق العلم فأعطاه عمره ، وأخلص للرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المُثُل ، سامي المقاصد ، رجل المروءات ، ناشر السنة بين أهلها ، وناصرها على أعدائها ، وحافظها لمحبيها ، وشارحها لناقليها .
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ورث أنوار الرسالة ، فألف للأمة الرسالة ، مات أبوه فكفلته الأم ، فقدم للناس كتاب الأم ، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل ، والفجر بزغ والنور سطع ، صحة مخارج ، حلاوة لفظ ، قوة حجة ، براعة دليل ، سلامة إنشاء ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [الجمعة :4]
في الفقه إمام، في النقل حجة ، في النسك علَم ، في اللغة أستاذ في الذكاء آية .
سرت به أمة من غزة فسبحان الذي أسرى ، وعاش في مكة لينفع أم القرى .
الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطلّبيّ ، ولم يتكل على الجاه فهو أبيّ ، ولكن أخذ بأسباب الخلود ، وهجر أسباب الفناء ، فأمات في حياته النفس الأمارة ، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة ، فنوديت ( ارجعي إلى ربك راضية مرضية) [الفجر :27].
إذا كانت الحياة بالبساط والسياط والسلطة والسطوة فأين أصحابها بعد موتهم ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ) [ مريم :98].
عند الشافعي : اتباع الأثر عبادة ، الوقوف مع النقل عقل ، توقير الصحبة عقيدة ، رد الشُبَه جهاد، تعليم الناس ربانية ، ترك المعاصي هجرة ، أهل الحديث رؤوس ، المبتدعة سفلة ، علم الكلام غي، المنصب ذُل ، الدنيا دنيئة .
بدا إلى البادية فهذّ شعر هذيل ، كان رأسا وسواه ذيل ، احتسى علم مالك ، ومص فهم أبي حنيفة ، وجمع بين النثر والشعر ، والرواية والدراية والعقل والنقل .
الشافعي عروبة حجازية ، وفصاحة عراقية ، ورقة مصرية ، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم ، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد ، سخر الشعر للشريعة ، والنحو للوحي ، والرأي للرواية ، التعليل للتأويل ، حملته الهمة فأضناه الطلب ، وخلع الدنيا فليس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا ، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة .
إن خطب أطنب وأطرب، وأتى بكل أطيب .. وإن أفتى شفى وكفى وأوفى .
فلج خصوم الإسلام ، ونكس رايات الأقزام وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال ، واكتسح الجهال، ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) [إبراهيم :46].
انكسر به ظهر الجبرية ، وثلم به قدر القدرية ، وأخرجت حججه شبه الخوارج ، واهتز في يده سنان السنة.
فرضي الله عن تلك الأرواح ، وجمعنا بهم مع أهل العلم والصلاح ،