نوح (عليه السلام)
كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون، يعبدون الله وحده ويعتقدون بالمعاد، ويفعلون الخيرات، فمات أولئك القوم، فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم. فعمل بعض تماثيل أولئك، وكانوا يسمّون بهذه الأسماء: ودّ، سواع، يغوث، يعوق، نسر..
وأنس الناس بهذه التماثيل، وجعلوها رمزاً لأولئك النفر الصلحاء الذين ماتوا منهم. وكان أهل المدينة يعظّمون هذه الصّور، قصداً إلى تعظيم أولئك الأموات.
مضى الصيف، وجاء الشتاء، فأدخلوا الصّور في بيوتهم. ومضى زمان.. وزمان.. حتى مات الآباء وكبر الأبناء، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل، ويخضعون أمامها. وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذاً عظيماً. وإذا بالجيل الثاني، شرعوا يعبدون الصور.. ويقولون إنها آلهةٌ، يجب السجود لها، والخضوع أمامها. فعبدوها، وضلّ منهم خلق كثي
وحينذاك، بعث الله إلى أولئك القوم نوحاً (عليه السلام) ليرشدهم إلى الطريق.. وينهاهم عن عبادة الأصنام.. ويهديم إلى عبادة الله تعالى.
فجاء نوح إلى القوم.. (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره) فكذّبوه، ولم يقبلوا منه، فأنذرهم من عذاب الله تعالى.
قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
(قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين).
(قال يا قوم ليس بي ضلالةُ ولكني رسول من ربّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون). فتعجّب القوم من مقالة نوح.. وجعلوا يقولون: أنت بشر مثلنا، فكيف تكون رسولاً من عند الله؟ وإن الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة.. ثمّ لا فضل لكم علينا، فلستم أكثر منّا مالاً أو جاهاً.. وإنا نظنّ إنكم كاذبون في هذه الادعاءات.. وقال بعض القوم لبعض: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم إن هو إلا رجل به جنّة)
وشجّع بعض القوم بعضاً، في عبادة أصنامهم (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً).
ولما طال حوارهم وجدالهم، قال نوح: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم)؟ وأخذ نوح (عليه السلام) جانب اللين واللّطف، ولكن القوم لم يزيدوا إلا عناد
ولكن نوحاً (عليه السلام) لم ييأس منهم، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين.. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه (واستغشوا ثيابهم) تغطّوا بها حتى لا يروه. وكثيراً ما هاجموه، وضربوه حتى يغشى عليه! لكنّ نوحاً النبي العظيم العطوف الحليم، كان إذا أفاق يقول: اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.
وفي مرات أنهكوه ضرباً وصفعاً، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة، وهو مع ذلك كلّه كان يلطف بهم، ويدعوهم إلى الله تعالى، فكانوا يقولون: لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)؟
حتى علم أنه لا يفيدهم النصح، فتوجّه إلى الله تعالى، ضارعاً، وبيّن كيفيّة ردّهم إياه (قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً).
(ثم إني دعوتهم جهاراً)، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً)، (يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهارا
واختلق بعض أولئك الكفّار عذراً تافها.. فقالوا: (أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا، وإعزازنا لك، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك.. فإنّا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع، والكبير والصغير؟
فأجابهم نوح (عليه السلام)، بلهجة كلّها حنان وتذكير: (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربّي لو تشعرون)، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حدّ سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع، والغنيّ والفقير، والكبير والصغير.
ولما انقطع القوم عن الاحتجاج.. ولم يتمكّنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح (عليه السلام)، أخذوا يهدّدونه، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين
وقد علم نوح (عليه السلام) أنهم لا يقبلون منطقاً، ولا يهتدون، فضرع إلى الله تعالى، في أن ينجّيه من هؤلاء المعاندين (قال ربّ إن قومي كذّبون)، (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين).
وحيث كان نوح يخوّف قومه من عذاب الله، إن أصرّوا على الكفر.. قال بعضهم، استهزاءً: إلى متى تهدّدنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
فأجابهم نوح: إن هذا الأمر ليس بيدي.. و(إنما يأتيكم به الله إن شاء).
ثم توجه إليهم في تحسّر، وقال: (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).
وعند ذاك توقّع النّصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنّه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحى إليه الله تعالى: (إنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعل
وإذ تمّت الحجة.. وانقطعت الأعذار، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون، يئس نوح منهم يأساً باتّاً، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد. فدعا إلى الله تعالى، قائلاً: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).
وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب. وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذّب طفلاً صغيراً بذنوب الآباء.. فعقّم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير مكلّف.
وفي تلك المدّة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرّون به ويسخرون منه، ويستهزئون به، قائلين: انّه شيخٌ قد أتى عليه تسعمائة سنة، وبعد يغرس النخل! وكانوا يرمونه بالحجارة..
ولما بلغ النخل، وانقضت خمسون سنة، أمر نوحٌ بقطعه.. فقالوا: إن هذا الشيخ قد خرف.. وبلغ منه الكبر مبلغه! مرّة يقول: أنا رسول.. ومرّة يغرس النخل.. ومرّة يأمر بقط
ولمّا اكتمل الأمر وصارت المدّة ألف سنة إلا خمسين عاما، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا). فأخذ نوح (عليه السلام) يصنع الفلك، وجبرئيل يعلّمه كيف يصنعها.. وإذ كان من الواجب صنع سفينة تسع ملايين المخلوقات، أوحى الله إليه: أن يكون طول السفينة ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ثمانمائة ذراع، وارتفاعها ثمانين ذراعاً، فيكون الحجم سبعة ملايين، وستمائة وثمانين ألف ذراع.
لكنّ نوحاً (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يعينه على صنع مثل هذه السفينة الكبيرة، قال: يا ربّ من يعينني على اتخاذها؟ فأوحى الله إليه: ناد في قومك، من أعانني عليها، ونجر منها شيئاً صار ما ينجره ذهباً وفضة. فأعانوه في صُنعها. وكان محلّ صنع السفينة صحراء وسيعة (ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملا من قومه سخروا منه)!
فكان بعضهم يقول: أيها النبي، لم عدلت عن رسالتك إلى النّجارة؟
وبعضهم كان يقول: يا نوح صرت نجّاراً بعد النبوّة؟!
وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحاً بالجنون والسّفه.
ويجيبهم نوح (عليه السلام) في تأدّب ولين: (إن تسخَروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مقيم). واشتغل بالعمل جادّاً، حتى تمّ صنع السفي
ثم أمر الله سبحانه نوحاً أن يحمل في السفينة الذي آمنوا معه.. ومِن كل ذي روح زوجين اثنين، لئلا ينقرض نسل الحيوان.. وقد كان نوح هيّأ لكلّ صنف من أصناف الحيوان، موضعاً في السفينة، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء، ولا يتمكّن أن يعيش فيه.
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغزال اثنين، ومن اليحمور اثنين، ومن البغل اثنين، ومن الفرس اثنين، ومن الأسد اثنين، ومن النمر اثنين، ومن الفيل اثنين، ومن الكلب اثنين، ومن الدّب اثنين.. وهكذا..
وحمل من الحمام اثنين، ومن العصفور اثنين، ومن الصعوة اثنين، ومن الغراب اثنين، ومن الكركي اثنين، ومن البلبل اثنين، ومن الببغاء اثنين، ومن النّسر اثنين ومن الهدهد اثنين، ومن الفاختة اثنين، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا..