يوسف عليه السلام
في
ليلة من الليالي رأى يوسف -عليه السلام- وهو نائم رؤيا عجيبة، فقد رأى أحد
عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له فلما استيقظ، ذهب إلى أبيه يعقوب
-عليه السلام- في هذه الرؤيا. فعرف أن ابنه سيكون له شأن عظيم، فحذره من
أن يخبر إخوته برؤياه، فيفسد الشيطان قلوبهم، ويجعلهم يحسدونه على ما آتاه
الله من فضله، فلم يقص رؤيته على أحد.
وكان يعقوب يحب يوسف حبًّا
كبيرًا، ويعطف عليه ويداعبه، مما جعل إخوته يحسدونه، ويحقدون عليه،
فاجتمعوا جميعا ليدبروا له مؤامرة تبعده عن أبيه.
فاقترح أحدهم أن
يقتلوا يوسف أو يلقوه في أرض بعيدة، فيخلو لهم أبوهم، وبعد ذلك يتوبون إلى
الله، ولكن واحدًا آخر منهم رفض قتل يوسف، واقترح عليهم أن يلقوه في بئر
بعيدة، فيعثر عليه بعض السائرين في الطريق، ويأخذونه ويبيعونه.
ولقيت
هذه الفكرة استحسانًا وقبولاً، واستقر رأيهم على نفيه وإبعاده، وأخذوا
يتشاورون في تدبير الحيلة التي يمكن من خلالها أخذ يوسف وتنفيذ ما اتفقوا
عليه، ففكروا قليلا، ثم ذهبوا إلى أبيهم وقالوا له: (يا أبانا ما لك لا
تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون)[يوسف: 11].
فأجابهم يعقوب -عليه السلام- أنه لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، وقال لهم: (أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون)[يوسف: 13]
فقالوا:
(لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون)[يوسف:14]. وفي الصباح، خرج
الأبناء جميعًا ومعهم يوسف -عليه السلام- إلى الصحراء، ليرعوا أغنامهم،
وما إن ابتعدوا به عن أبيهم حتى تهيأت لهم الفرصة لتنفيذ اتفاقهم، فساروا
حتى وصلوا إلى البئر، وخلعوا ملابسه ثم ألقوه فيها، وشعر يوسف بالخوف،
والفزع، لكن الله كان معه، حيث أوحى إليه ألا تخاف ولا تجزع فإنك ناج مما
دبروا لك.
وبعد أن نفذ إخوة يوسف مؤامرتهم، جلسوا يفكرون فيما سيقولون
لأبيهم عندما يسألهم، فاتفقوا على أن يقولوا لأبيهم إن الذئب قد أكله،
واخلعوا يوسف قميصه، وذبحوا شاة، ولطخوا بدمها قميص يوسف.
وفي الليل،
عادوا إلى أبيهم، ولما دخلوا عليه بكوا بشدة، فنظر يعقوب إليهم ولم يجد
فيهم يوسف معهم، لكنهم أخبروه أنهم ذهبوا ليتسابقوا، وتركوا يوسف ليحرس
متاعهم، فجاء الذئب وأكله، ثم أخرجوا قميصه ملطخًا بالدماء، ليكون دليلا
لهم على صدقهم.
فرأى يعقوب -عليه السلام- القميص سليمًا، حيث نسوا أن
يمزقوه، فقال لهم: عجبًا لهذا الذئب كان رحيمًا بيوسف أكله دون أن يقطع
ملابسه. ثم قال لهم مبينًا كذبهم: (بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل
والله المستعان على ما تصفون)[يوسف: 18].
أما يوسف فكان لا يزال حبيسًا
في البئر ينتظر الفرج والنجاة، وبينما هو كذلك، مرت عليه قافلة متجهة إلى
مصر، فأرادوا أن يتزودوا من الماء، فأرسلوا أحدهم إلى البئر ليأتيهم
بالماء، فلما ألقى دلوه تعلق به يوسف، فنظر في البئر فوجد غلامًا جميلاً
يمسك به، ففرح الرجل ونادى رجال القافلة، فأخرجوا يوسف، وأخذوه معهم إلى
مصر ليبيعوه.
وكان عزيز مصر في هذا اليوم يتجول في السوق، ليشتري
غلامًا له؛ لأنه لم يكن له أولاد، فوجد هؤلاء الناس يعرضون يوسف للبيع،
فذهب إليهم، واشتراه منهم بعدة دراهم قليلة.
ورجع عزيز مصر إلى زوجته،
وهو سعيد بالطفل الذي اشتراه، وطلب من زوجته أن تكرم هذا الغلام، وتحسن
معاملته، فربما نفعهما أو اتخذاه ولدًا لهما، وهكذا مكن الله ليوسف في
الأرض فأصبح محاطًا بعطف العزيز ورعايته.
ومرت السنون، وكبر يوسف،
وأصبح شابًا قويًّا، رائع الحسن، وكانت امرأة العزيز تراقب يوسف يومًا بعد
يوم، وازداد إعجابها به لحظة بعد أخرى، فبدأت تظهر له هذا الحب بطريق
الإشارة والتعريض، لكن يوسف -عليه السلام- كان يعرض عنها، ويتغافل عن
أفعالها، فأخذت المرأة تفكر كيف تغري يوسف بها.
وذات يوم، انتهزت فرصة
غياب زوجها عن القصر، فتعطرت وتزينت، ولبست أحسن الثياب، وغلقت الأبواب
ودعت يوسف حتى أدخلته حجرتها، وطلبت منه أن يفعل معها الفاحشة.
لكن
يسوف بعفته وطهارته امتنع عما أرادت، ورد عليها ردًّا بليغًا حيث قال:
(معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) [يوسف: 23].
ثم
أسرع يوسف -عليه السلام- ناحية الباب يريد الخروج من المكان، لكن امرأة
العزيز لم تدع الفرصة تفوتها، فجرت خلفه، لتمنعه من الخروج، وأمسكت بقميصه
فتمزق.
وفجأة، حضر زوجها العزيز، وتأزم الموقف، وزاد الحرج، لكن امرأة
العزيز تخلصت من حرج موقفها أمام زوجها، فاتهمت يوسف بالخيانة ومحاولة
الاعتداء عليها، وقالت لزوجها: (ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن
أو عذاب أليم)[يوسف: 25].
وأمام هذا الاتهام، كان على يوسف أن يدافع عن نفسه، فقال: (هي راودتني عن نفسي)[يوسف: 26].
فاحتكم
الزوج إلى رجل من أهل المرأة، فقال الرجل من غير تردد انظروا: (إن كان
قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت
وهو من الصادقين)[يوسف: 26-27].
فالتفت الزوج إلى امرأته، وقال لها:
(إنه من كيدكم إن كيدكن عظيم)[يوسف: 28]، ثم طلب العزيز من يوسف أن يهمل
هذا الموضوع، ولا يتحدث به أمام أحد، ثم طلب من زوجته أن تستغفر من ذنبها
وخطيئتها.
واتفق الجميع على أن يظل هذا الفعل سرًّا لا يعرفه أحد، ومع
ذلك فقد شاع خبر مراودة امرأة العزيز ليوسف، وطلبها للفاحشة، وانتشر في
القصر وتحدث نساء المدينة بما فعلته امرأة العزيز مع فتاها، وعلمت امرأة
العزيز بما قالته النسوة عنها، فغضبت غضبًا شديدًا، وأرادت أن تظهر لهن
عذرها، وأن جمال يوسف وحسن صورته هما اللذان جعلاها تفعل ذلك، فأرسلت
إليهن، وهيأت لهن مقاعد مريحة، وأعطت كل واحدة منهن سكينا، ثم قالت ليوسف:
اخرج عليهن.
فخرج يوسف متمثلاً لأمر سيدته، فلما رآه النسوة انبهرن
بجماله وحسنه، وقطعن أيديهن دون أن يشعرن بذلك، وظن جميع النسوة أن الغلام
ما هو إلا ملك، ولا يمكن أن يكون بشرًا. فقالت امرأة العزيز: (فذلكن الذي
لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن
وليكونا من الصاغرين)[يوسف: 32].
واقتنع النساء بما تفعله امرأة العزيز
مع يوسف، فلما رأى ذلك منهن قال: (قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني
إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)[يوسف: 33].
وكادت
تحدث فتنة في المدينة بسبب عشق النساء ليوسف، فرأى القائمون على الأمر في
مصر أن يسجن يوسف إلى حين، فسجنوه، وظل يوسف -عليه السلام- في السجن فترة،
ودخل معه السجن فتيان أحدهما خباز والآخر ساقي، ورأيا من أخلاق يوسف وأدبه
وعبادته لربه ما جعلهما يعجبان به، فأقبلا عليه ذات يوم يقصان عليه ما
رأيا في نومهما، (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني
أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من
المحسنين)[يوسف: 36]
ففسر لهما يوسف رؤياهما، بأن أحدهما سيخرج من
السجن، ويرجع إلى عمله كساق للملك، وأما الآخر وهو خباز الملك فسوف يصلب،
وتأكل الطير من رأسه.
وقبل أن يخرج ساقي الملك من السجن طلب من يوسف أن
يذكر أمره عند الله، ويخبره أن في السجن بريئًا حبس ظلمًا، حتى يعفو عنه،
ويخرج من السجن، ولكن الساقي نسى، فظل يوسف في السجن بضع سنين، وبمرور
فترة من الزمن تحقق ما فسره لهما يوسف.
وفي يوم من الأيام، نام الملك
فرأى في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع نحيفات، وسبع سنبلات خضر وأخر
يابسات، فقام من نومه خائفا مفزوعًا مما رآه، فجمع رجاله وعلماء دولته،
وقص عليهم ما رآه، وطلب منهم تفسيره، فأعجزهم ذلك، وأرادوا صرف الملك عنه
حتى لا ينشغل به، فقالوا: (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام
بعالمين)[يوسف: 44].
لكن هذه الرؤيا ظلت تلاحق الملك وتفزعه أثناء
نومه، فانشغل الملك بها، وأصر على معرفة تفسيرها، وهنا تذكر الساقي أمر
يوسف، وطلب أن يذهب إلى السجن ليقابل يوسف، وهناك طلب منه أن يفسر رؤيا
الملك، ففسر يوسف البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين يكثر فيها
الخير وينجو الناس فيه من الهلاك.
ولم يكتف يوسف بتفسير الحلم، وإنما
قدم لهم الحل السليم. وما يجب عليهم فعله تجاه هذه الأزمة، وهو أن يدخروا
في سنوات الخير ما ينفعهم في سنوات القحط والحاجة من الحبوب بشرط أن
يتركوها في سنابلها، حتى يأتي الله بالفرج.
ولما عرف الساقي تفسير
الرؤيا، رجع إلى الملك ليخبره بما قاله له يوسف. ففرح الملك فرحًا شديدًا،
وراح يسأل عن ذلك الذي فسر رؤياه، فقال الساقي: يوسف. فقال الملك على
الفور: ائتوني به.
فذهب رسول الملك إلى يوسف وقال له: أجب الملك، فإنه
يريد أن يراك، ولكن يوسف رفض أن يذهب إلى الملك قبل أن تظهر براءته، ويعرف
الملك ما حدث له من نساء المدينة.
فأرسل الملك في طلب امرأة العزيز
وباقي النسوة، وسألهن عن الأمر، فقلن معترفات بذنوبهن مقرَّات بخطئهن،
ومعلنات عن توبتهن إلى الله: ما رأينا منه سوءًا، وأظهرت امرأة العزيز
براءة يوسف أمام الناس جميعًا.
عندئذ أصدر الملك قراره بتبرئة يوسف مما
اتهم به، وأمر بإخراجه من السجن وتكريمه، وتقريبه إليه. ثم خيره أن يأخذ
من المناصب ما شاء فقال يوسف: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ
عليهم)[يوسف: 55]. فوافق الملك على أن يتقلد يوسف هذا المنصب لأمانته
وعلمه.
وتحققت رؤيا الملك، وانتهت سنوات الرخاء، وبدأت سنوات المجاعة،
وجاء الناس من كل مكان في مصر والبلاد المجاورة ليأخذوا حاجتهم من خزائن
الملك.
وفي يوم من الأيام، وأثناء توزيع الحبوب على الناس إذا بيوسف
أمام رجال يعرفهم بلغتهم وأشكالهم وأسمائهم، وكانت مفاجأة لم يتوقعوها،
إنهم إخوته، أبناء أبيه يعقوب -عليه السلام-، الذي ألقوه في البئر وهو
صغير، لقد جاءوا محتاجين إلى الطعام، ووقفوا أمامه دون أن يعرفوه، فقد
تغيرت ملامحه بعدما كبر، فأحسن يوسف إليهم، وأنسوا هم به، وأخبروه أن لهم
أخا أصغر من أبيهم لم يحضر معهم، لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه.
فلما
جهزهم يوسف بحاجات الرحلة، وقضى حاجتهم، وأعطاهم ما يريدون من الطعام، قال
لهم: (ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير
المنزلين. فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون).
[يوسف: 59-60].